أجلسُ الآنَ في هذا المطعمِ الراقي، تغلبُ على تصاميمهِ درجاتُ اللونِ الأحمر، وعُلّـقَت عباراتٌ عاطفيةٌ في جميعِ أركانه، ناهيكم عن رسوماتِ القلوب المنتشرةِ في السقفِ، يبدو أنَّ المصممَ مِن أتباعِ أن اللونَ الأحمر منَ الألوانِ الرومانسية، التي تعبرُ عن الحبِّ والعشق.
وبِالحديثِ عن الحُبِّ..أفضِّلُ أن أُحبَّ فرسَ نهرٍ لا يفعلُ شيئًا سوى النوم في الطينِ، على أن أُحبَّ رجلًا..مجددًا.
تململتُ على الكرسيِّ المبطنِ بالقطيفةِ السوداء، وكأنهُ يُشاركني الرثاء على وفاةِ والدتي، أمرٌ غريبٌ أن صوانَ العزاءِ مُقامٌ في وطنيَ الأُم، مع صوتِ الشيخِ المنشاوي، والوجوهُ الحزينة، المفجوعة، وأنا أجلسُ في بركةٍ من الدماءِ هُنا وَحدي، منتظرةً قدريَ البائس، هل قلتُ وفاة؟..
حاولتُ إقناعهم أنها لم تمُت..لكن لا أحدَ يسمعُني!
– مساءُ الخيرِ عزيزتي..
رفعتُ مقلتاي اللامِعتينِ إلى مُقاطعِ حبل أفكاري، وجهٌ حليق، عيونٌ زائغةٌ على تفاصيلِ فستانيَ الضيق، وابتسامةٌ فرِحة لمُبادرتي بِدعوتهِ على العشاء، معتوه.
حاولتُ أن أبتسمَ بِقدرِ الإمكانِ، لكنَّ ابتسامتي خرجَت مهتزةً، مقتضبةً، لم تضق لها عيني كَما العادة.
– تُبحلقينَ في وجهي مُذ جئتُ، ألهذهِ الدرجةِ اشتقتِ إليَّ؟
سحقًا لِأنفهِ الكبير، كلُّ شيءٍ فيهِ كبير عدا عقله، يتنافسُ مع حبةِ السمسمِ في صغرِ الحجمِ، لا يعلمُ أنني في كلِّ مرةٍ أبحلقُ فيهِ؛ أحمدُ الله على جميعِ ابتلاءاتِ حياتي، هي لا شيء بِجانبِ وجهه الذي يطغى عليهِ سوادهُ الداخليّ.
سألتُ وأنا أُعيدُ تصفيفَ شعري بِيدي:
= كيفَ هيَ ليلى وأَنَس؟
اعتدلَ في جلستهِ وهو يرفعُ عيونه إلى السقفِ كَالمشنوق، مسكينٌ ظن أنهُ موعدٌ غراميّ:
– بِخيرٍ، لقد اشتاقا لكِ كثيرًا، هل فكرتِ في عرضي؟
ابتلعتُ لعابي وأنا أبعدُ يدي الذي وضعَ يدهُ المتعرقة فوقها فجأة، آسفةٌ لِبشَرتي:
= لقد..لقد فكرتُ في الأمرِ، وأعلمُ أنك ستتفهمُني..ولن تُجبرني على..
– لا أطفالَ بِدونِ رجوع!، ولن أُطلِّق، وبِإمكاني إجباركِ على أيِّ شيءٍ أريدهُ، وأظنُّ أنكِ جربتِ الأمرَ قبلًا..
وضعتُ يدي بِتلقائيةٍ على وَجنتي، أريدُ أمي..
هيَ لم تمُت بعدُ، أشعرُ بِها، تربتُ على قلبي، وتقفُ بِجانبي تدعمُني وتقوِّيني، مخيرةٌ بينَ العيشِ مع ذكرٍ تعاملهُ معي يقتصرُ على يدهِ ولسانه، وبينَ أن أعيش هكذا للأبد، امرأةٌ معلَّقة، محرومةٌ من رؤيةِ طفلتِها ورضيعِها، حتى أسرتُها تخلَّت عنها بسببِ منصبهِ الكبير، فقدَت والدها قبلَ ظهورِ وجهِ الوضيعِ الحقيقي، والآنَ فقدَت آخرَ ذرةٍ من شجاعتها بِموتِ والدتها..أو رُبما لا..
– ماذا ستطلبينَ على العشاءِ؟
أبعدتُ شعري عن كتفيَ المكشوف، ومسحتُ دموعيَ التي تذوقتُ طعمها المالحَ على أطرافِ شفتاي، أجبتُ بِصوتٍ مبحوح:
= أيُّ طعامٍ يؤكل.
نادى النادلُ وهو يتجاهلُ النظرَ إلى وجهي، طلبَ صدورَ الدجاجِ المشويةِ مع البقدونس والبطاطا المُملحة، هذا البرميل!، يعيشُ معي لِخمسِ سنواتٍ ولم يحفظ أن صدورَ الدجاجِ تقفُ في حلقي، وتخنقني.
أعادَ يدهُ:
– أعرفُ أنكِ مُشتتة..
أبعدتُها:
= هذهِ ليستِ المرةُ الأولى!
– لقد اعتدتِ على الأقل.
أنهى عبارتهُ بضحكةٍ مجلجلة. أمسكتُ طرفَ فستاني وأنا أُحاولُ التماسكَ، أُريدُ أمي..
– لن ترَيّ لا ليلى ولا أنس، إذا لم توافقي على العودةِ، وتسحبي قضيةَ الخلعِ التي رفعتِها عليَّ..يا وقِحة.
أخفضَ صوتهُ في نهايةِ حديثهِ مبتسمًا بِتشفٍّ، نظرتُ إليهِ بِاشمئزازٍ كبير، أنزلَ النادلُ الأطباقَ أمامنا، دخانُ الطعامِ يتصاعدُ من الأطباقِ نحو وجههِ؛ مذيبًا ملامحه أمامي، أعوذُ بِاللهِ من الشيطانِ الرجيم!
انتهينا من الأكلِ وسطَ نظراتهِ الصفراء، وابتسامتي الهادئة التي خالفَت ضجيجيَ الداخليّ، قُمنا سويًّا للخروجِ منَ المكان، نظرتُ إلى بوابةِ المشفى التي تجاورُ بابَ المطعمِ، ليسَت بعيدةً أبدًا، لكنها بعيدةٌ جدًّا في علمِ الكيمياء.
انتفضَ جسدي فجأةً نتيجةَ صرخةٍ متألمةٍ ندعت منهُ وهو يسقطُ على ركبتيهِ منثنيًا إلى الأمام، أشارَ إلى بطنهِ وسطَ احمرارِ وجهه:
– بطني تتقطع!..أنجديني!
همستُ لهُ وأنا أرمي حقيبتي جالسةً على الأرضِ بجانبهِ بِهلعٍ فاتن:
– لا تقلق!..ستعتادُ الأمرَ.
بعدَ مرورِ ستةِ أشهرٍ، أجلسُ الآنَ مع أبنائي في بيتِنا المتواضِع، ليلى تسألُني “أينَ بابا؟”؛ فَأجيبُها بِتنهيدةٍ مُرتاحة “بابا في السماء”..
بِالطبعِ لن تفهم الطفلةُ فكرةَ أن والدها ماتَ بسببِ تسممٍ غذائيّ، أو مثلًا بسببِ دبوسِ شعرٍ صغير وقعَ من شعري في تلكَ الليلةِ..
أجَل، وقعَ..بهذهِ البساطة!، لا صبرَ لديَّ لأشرح التفاعلات التي أدت لِذوبانِ الدبوسِ فورَ تفاعلهِ مع حمضِ المعدة؛ مسببًا ذوبانًا في جدارها، وتسممًا في الدمِ..
لكن أرجوكم..لا تجوزُ على الأفيالِ إلا الرحمة.
ك/ وَطَن